اغتيال الصحفيين في غزة- شهادات تكشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي

في يوم دامٍ، الرابع والعشرين من شهر مارس/ آذار، فقدت قناة الجزيرة الصحفي اليافع حسام شبات، الذي اغتالته طائرة إسرائيلية مسيّرة بصاروخ غادر، بينما كان يستقل سيارته.
أفاد أحد الصحفيين، الذي بذل جهودًا مضنية في توثيق آثار هذه الجريمة النكراء، بأن حسام كان قد انتهى لتوه من إجراء مقابلة صحفية، وكان في طريقه إلى المستشفى الإندونيسي الواقع في شمال غزة، بغية تقديم بث مباشر عبر شاشة قناة الجزيرة مباشر.
وقد أدانت لجنة حماية الصحفيين هذه العملية الشنيعة، واعتبرتها جريمة قتل متعمدة ومقصودة. يُذكر أن حسام كان يساهم أيضًا في موقع "دروب سايت نيوز" الأميركي، حيث استعان الصحفي جيفري سانت كلير بتقاريره الميدانية الحية ضمن "يوميات غزة" التي قام بنشرها.
وقد ترك حسام رسالة مؤثرة قبل استشهاده، جاء فيها:
"إذا ما قدرتم لكم قراءة هذه الكلمات، فذلك يعني أنني قد قُتلت – وعلى الأرجح استُهدفت – من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.. لقد وهبت الثمانية عشر شهرًا الماضية من حياتي بأكملها لخدمة شعبي الأبيّ.
لقد وثقتُ أهوال شمال غزة لحظةً بلحظة، وعقدت العزم على كشف الحقيقة التي حاولوا جاهدين طمسها وتغييبها.. وأقسم بالله العظيم إنني قد أديتُ واجبي كصحفي على أكمل وجه. لقد خاطرْتُ بكل شيء لنقل الحقيقة المجردة، والآن، أرقد بسلام واطمئنان…".
وفي سياق متصل، وفي وقت سابق من يوم استشهاده، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي الصحفي محمد منصور، الذي يعمل لدى قناة فلسطين اليوم، مع زوجته ونجله، وذلك عبر قصف مباشر لمنزله الكائن في خان يونس.
وبعد عملية الاغتيال الآثمة التي طالت شبات، احتفى الجيش الإسرائيلي بقتله على الملأ وبصورة سافرة، إذ قام بنشر منشور عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس"، تفاخر فيه بـ"تصفية" حسام، وزعم قائلًا: "لا تدعوا السترة الصحفية تخدعكم، فحسام كان إرهابيًا خطيرًا". وكان الاحتلال قد ادعى قبل ستة أشهر مضت أن شبات وخمسة صحفيين آخرين – وجميعهم يعملون لدى قناة الجزيرة – ينتمون إلى حركة حماس.
في تلك الفترة الحرجة، كان شبات يقوم بتغطية الأحداث المأساوية من شمال غزة، تلك المنطقة التي لم يبقَ فيها سوى عدد قليل من الصحفيين الشجعان، حيث كانت إسرائيل قد أطلقت حملة إبادة جماعية شاملة ومركزة، وكان شبات وزملاؤه الأبطال يرابطون هناك لتوثيق الجرائم الإسرائيلية وتقديم تغطية إخبارية مستمرة ومتواصلة.
كان حسام يدرك تمام الإدراك أن إعلان الاحتلال له كـ"عنصر من حماس" يعني نية مبيّتة ومعلنة لاستهدافه وتصفيته. لذلك ناشد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لرفع أصواتهم عالياً، مستخدمين وسم "#احموا_الصحفيين"، قائلًا بقلب يعتصره الألم:
"أناشد الجميع نشر الحقيقة كاملة حول ما يتعرض له الصحفيون من خطر محدق، لفضح خطط الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى فرض تعتيم إعلامي شامل. انشروا الوسم وتحدثوا عنا، ولا تدعوا صوتنا يخفت!".
وكانت آخر رسالة صحفية له، والتي أُرسلت قبل ساعات قليلة من مقتله الغادر، قد تُرجمت من العربية إلى الإنجليزية بواسطة شريف عبد القدوس، وافتتحت بهذه الكلمات المفعمة بالحزن:
"كانت الليلة حالكة السواد، يلفها هدوء حذر ومريب. خلد الجميع إلى نومٍ قلق ومضطرب. لكن الصمت والسكون سرعان ما تحطّما تحت وطأة صرخات مفزعة ومدوية. وبينما كانت القنابل تمطر السماء بغزارة، كانت صرخات الجيران تعلن اللحظات الأولى لاستئناف الحملة العسكرية الإسرائيلية الشرسة. غرقت بيت حانون في حالة من الذعر والرعب الشديدين".
إنه وصف مروع وفظيع للواقع المرير، يكشف بوضوح وجلاء السبب الحقيقي الذي دفع إسرائيل إلى إسكات صوت حسام شبات إلى الأبد.
لقد بلغ عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قُتلوا منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2023، 236 شهيدًا، بعد انضمام حسام شبات إلى هذه القائمة الدامية والمفجعة. وفي السابع من شهر أبريل/ نيسان، قصفت إسرائيل خيمة إعلامية في خان يونس، ممّا أدى إلى زيادة عدد الضحايا وارتفاعه بصورة مأساوية.
ومنذ أن أنهى نتنياهو وقف إطلاق النار، انطلقت إسرائيل في موجة قتل عارمة ووحشية، أسفرت خلال الأيام الثلاثة الأولى عن استشهاد 700 شخص وإصابة 900 آخرين بجروح خطيرة، ولا تزال المجازر مستمرة في حصد الأرواح البريئة.
إن دعاة الدعاية الحربية يعلمون جيدًا أنّ خططهم السوداء تنهار وتتلاشى أمام الشهادات الصادقة والمعارضة الحرة النزيهة. فالبروباغاندا الحربية تقتضي دومًا فرض الرقابة الخانقة وإسكات الأفواه.
لم يكن حسام شبات الفلسطيني الوحيد الذي ترك خلفه توثيقًا لعملية قتله والمسؤولين عنها. فقد كان رفاعة رضوان من بين خمسة عشر مسعفًا تم إعدامهم بدم بارد على يد إسرائيل، وذلك قبل يوم واحد فقط من اغتيال شبات، وقد ترك تسجيلًا مصورًا لعملية قتله البشعة، ممّا أسقط روايات الاحتلال الكاذبة والمضللة.
وفي صباح يوم الثالث والعشرين من شهر مارس/ آذار، قتلت قوات الاحتلال الغاشم العاملين في الإغاثة الإنسانية برفح، وكانوا يتألفون من ثمانية أفراد من طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، وستة من الدفاع المدني الفلسطيني، بالإضافة إلى موظف من وكالة الأونروا، وذلك أثناء تنفيذهم لمهمة إنسانية نبيلة تتمثل في انتشال الجرحى والشهداء المدنيين.
وبعد انطلاقهم لتنفيذ مهمتهم الإنسانية، انقطعت أخبارهم لأيام. وأطلق الناطق باسم الدفاع المدني، محمود بصل، مناشدات يائسة إلى العالم أجمع للضغط على إسرائيل بغية الكشف عن مصيرهم المجهول. واستمر الوضع على هذا الحال حتى يوم الثلاثين من شهر مارس/ آذار، حين تم استخراج جثثهم الطاهرة من قبر جماعي ضحل، وهم لا يزالون يرتدون زيهم الرسمي المضيء.
وقد كشفت الفحوصات الجنائية التي أجراها طبيب تعاقد مع مستشفى في خان يونس عن علامات واضحة تشير إلى "عمليات إعدام ميداني" بناءً على أماكن الإصابة القريبة والمقصودة.
وقد عُثر على الضحايا وهم لا يزالون يحملون أجهزة الاتصال الخاصة بهم، والقفازات، والحقائب الطبية. ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية شهادات الطبيب، وأشارت إلى أن إسرائيل قد دمرت النظام الصحي في غزة بصورة ممنهجة وقتلت ألفًا من العاملين في القطاع الطبي، وهو ما يرقى إلى مستوى جرائم حرب مكتملة الأركان.
وفي الأول من شهر أبريل/ نيسان، غطت صحيفة "نيويورك تايمز" هذه المجزرة المروعة، واضعة في عنوانها اقتباسًا على لسان الأمم المتحدة يتهم إسرائيل بقتل عمال الإنقاذ. لكنها افتتحت التقرير بإبراز نفي الاحتلال، حيث ادّعت إسرائيل زورًا وبهتانًا أن تسعة من القتلى كانوا "مقاتلين فلسطينيين أشداء".
واتّبعت الصحيفة أسلوبها المعتاد في تقديم الروايتين المتناقضتين (رغم الفارق الشاسع بينهما)، مستعرضةً بشاعة المشهد المأساوي وشهادات وكالات غزة والأمم المتحدة، ثم منحت المساحة مجددًا لدفاعات الجيش الإسرائيلي غير القابلة للتصديق، بزعم أن "عددًا من المركبات كانت تتقدم نحو الجنود الإسرائيليين بطريقة مريبة وملفتة للنظر ومن دون إشارات طوارئ تنبه بوجود خطر".
وزعمت إسرائيل أن من بين القتلى محمد أمين إبراهيم شوبكي، الذي شارك في هجمات السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، رغم استحالة تصديق هذه الرواية في ظل الكم الهائل من القنابل والمتفجرات التي أُلقيت على غزة – بكمية تفوق ما أُلقي خلال الحرب العالمية الثانية – بزعم استهداف حركة حماس فقط، وليس عشرين ألف طفل فلسطيني بريء قتلوا جراء ذلك القصف العنيف.
غير أن العثور على الهاتف المحمول الذي سجل ما حدث قلب الرواية الإسرائيلية رأسًا على عقب وفضح زيفها. فقد التقط رفاعة رضوان هاتفه المحمول أثناء تعرض قافلتهم النبيلة للنيران الغاشمة، وسجل رسالة مؤثرة وهو يركض بشجاعة فائقة باتجاه النيران الإسرائيلية، محاولًا إنقاذ المصابين والضحايا. خاطب والدته قائلًا بقلب دامع:
"أمي الحبيبة، سامحيني وأعذريني… أقسم بالله العظيم إنني اخترت هذا الطريق الصعب فقط لأساعد الناس وأنقذهم من الموت المحقق".
وأظهرت اللقطات المروعة أن أضواء سيارات الإسعاف كانت تعمل بوضوح تام، ومع ذلك لم توفر لهم أي حماية أو أمان.
لقد أكد الشريط المصور ما كان العالم بأسره يعرفه بالفعل، وكشف النقاب عن شجاعة إنسانية نادرة لشاب فلسطيني واصل إنقاذ الأرواح وسط إبادة جماعية لا توصف ولا يمكن تصورها.
لقد كان شريط رفاعة رضوان مؤثرًا إلى درجة أن صحيفة "نيويورك تايمز" اضطرت، في السادس من شهر أبريل/ نيسان، إلى نشر عنوان صريح وواضح يشير إلى أن "عمال الإغاثة في غزة قُتلوا برصاص إسرائيلي غادر". ومع ذلك، منح التقرير، الذي كتبته إيزابيل كيرشنر، مساحة واسعة لمسؤولي الاحتلال لتقديم دفاعاتهم الواهية مجددًا، متجاهلًا المنهجية الإسرائيلية المتبعة في استهداف القطاع الصحي في غزة بصورة متعمدة.
إن المؤرخين الفلسطينيين يتحدثون بلغة الإنسانية الراقية. فهم يروون ما يجري بحقهم من ظلم واضطهاد كما كتب حسام شبات بكلماته المؤثرة:
"كنت أنام على الأرصفة، وفي المدارس المدمرة، وفي الخيام المتواضعة – في أي مكان أجده ملجأً لي. كان كل يوم معركة شرسة من أجل البقاء على قيد الحياة. تحملت الجوع لشهور طويلة، ومع ذلك لم أتخلَّ يومًا واحدًا عن شعبي الأبيّ".
كما ترك كلمات خالدة ستبقى محفورة في الذاكرة:
"لا تتوقفوا أبدًا عن الحديث عن غزة. لا تسمحوا للعالم أن يغض الطرف عما يحدث فيها من مآسٍ. استمروا في النضال بكل ما أوتيتم من قوة، وواصلوا رواية قصصنا المؤلمة – حتى تتحرر فلسطين من براثن الاحتلال".
إنها كلمات حكيمة ومؤثرة للغاية، ورسالة بالغة الأهمية لشعب يتعرض لإبادة جماعية مروعة. وهي تمامًا الكلمات التي يحتاج العالم أجمع إلى سماعها اليوم لكي يتحرك ويضع حدًا لهذا الظلم.